السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لم ينص الفقهاء قديما على حكم هذه المسألة ولم يتطرقوا إليها في مؤلفاتهم ومصنفاتهم وفق الصورة الحديثة لها، وهي من نتاج التقدم العلمي الحديث وتراكمات الحضارة المعاصرة،
وقبل بيان الحكم الشرعي للتشريح لا من بيان معناه والأغراض الحاملة عليه.
التشريح اصطلاحا: فتحُ جسدِ ميتٍ أو أعضاء منه لأغراض مخصوصة.
أغراض التشريح:
يتم تشريح جسم الإنسان الميت للأغراض التالية :
1-التشريح لأغراض التعليم ليعرف الطالب تركيب جسم الإنسان ووظائف الأعضاء وأقسامها ويتدرب على استعمال أدوات الجراحة ليقوم بعد ذلك بإجراء العمليات الجراحية للأحياء.
2- التشريح لمعرفة مدى العلاقة بين الأعراض التي ظهرت على المريض والتشخيص وبين ما يكشف عنه التشريح من بيان الأسباب الحقيقية للوفاة ، وبهذا يمكن أن يتقدم علم الطب حيث تكتشف الأمراض غير المعروفة.
3- التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
4- التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية ومعرفة الأسباب الحقيقية للوفاة في الحالات القضائية حيث يمكن معرفة السبب الحقيقي للوفاة وزمنها والملابسات التي أحاطت بها، فقد يكون سبب الوفاة الحقيقي مخالفا لسبب الوفاة الظاهري وبذلك يتغير الحكم القضائي.
5- التشريح لأغراض الانتفاع بأعضاء الميت لمصلحة الأحياء.
وأما الإجابة عن السؤال ما حكم تشريح الجثث فقد ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين إلى جواز التشريح لما يترتب عليه من مصالح جمة تفوق المضار والمفاسد، والأحكام الشرعية إنما تبنى على الغالب، إذ ما من فعل إلا وتحيطه وتجتمع فيه المصالح والمفاسد، وبناء الحكم الشرعي وفق الراجح من النوعين، فليس في الكون مصلحة محضة ومفسدة محضة؛ولأن مراعاة حرمة الحي أعظم من مراعاة حرمة الميت، واستدلالا بقاعدة: " إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما"، فالتشريح فيه مصلحة عامة متعارضة مع مصلحة قاصرة خاصة وهي حرمة الميت ، فتقدم المصلحة العامة.
وتشريح الميت مفسدة خاصة لما فيها من انتهاك لحرمته ، وتركه فيه مفسدة عامة منتشرة على مجموع الناس ، فترتكب المفسدة الأخف وهي التشريح درءا وتلاشيا من وقوع المفسدة الأعم والأشد.
وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء الإسلام: فمسألة تترس الكفار بأسرى المسلمين ونحوهم في الحرب رجح كثير منهم رمي الترس إيثارا للمصلحة العامة ، وكذا رجح كثير منهم شق بطن من ماتت وفي بطنها جنين حي ، وأكل المضطر لحم آدمي ميت ، إبقاء على حياته ، وإيثار الجانب الحي على الجانب الميت ، وإلقاء أحد ركاب سفينة خيف عليهم الغرق ولا نجاة لهم إلا بإلقاء واحد منهم ، إيثارا لمصلحة الجماعة على مصلحة الواحد ... فلا يبعد أن يقال يجوز التشريح إلحاقا له بهذه النظائر في الحكم.
ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فتعلم الطب من الفروض الكفائية ، أي إحياؤه موجه على مجموع الناس فإن أقاموه سقط التكليف عن الباقين ، وإن عطلوه ولم يقوموا به أثموا جميعا ، وتعلم الطب وإتقانه لا يتحقق إلا من خلال الإطلاع على وظائف وتركيب الأعضاء نظريا وعمليا ، ولا يكون ذلك إلا من خلال التشريح .
وينبغي أن تراعى الضوابط التالية عند التشريح:
1- يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة والحاجة كيلا يعبث بجثث الموتى، وستر ما لا حاجة إلى كشفه من العورة.
2- تعظيم حرمة الميت وعدم امتهانه، فلا يجوز الاستهزاء به ولا اللعب بأعضائه ولا الترامي بها في غرف التشريح كما وللأسف يحدث في بعض المستشفيات الجامعية.
3- إعادة جميع الأعضاء إلى الميت بعد التشريح وموارة الجثة في التراب.
4- تقدّم جثة غير المعصوم على المعصوم، إلا إذا وجدت مصلحة لتشريح المعصوم، وغير المعصوم درجات فتقدم جثة الحربي ثم المرتد ثم المحدود بحد. وفي حال عدم وجود غير المعصوم فيجوز تشريح المعصوم شريطة أخذ إذن الورثة، أو وجود إذن من الميت قبل وفاته، فإن لم يوجد الإذن فلا يجوز التشريح.
5- إن وجد بديل مباح عن التشريح فلا يصار إليه، كأن يقوم تشريح الحيوان مثلا مقام تشريح الإنسان.
6- فصل الطالبات عن الطلاب حال تشريح الجثث .
7- لا بأس أن يمارس طالب الطب تشريح جثث النساء في مرحلة التعليم ليكون على دراية وخبرة ، ولكن في الممارسة العملية لا ينبغي أن يشرح النساء إلا الطبيبات ، فإن لم يوجدن يستعاض عنهن بالأطباء استثناءً .
وقد صدر الجواز بتشريح جثث الموتى عن عدد من الهيئات الشرعية المعتبرة في العالم الإسلامي، منها: هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، ولجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية ولجنة الإفتاء بالأزهر.
{ انظر: قضايا طبية معاصرة في ميزان الشريعة للسرطاوي ص(46)، أبحاث هيئة كبار العلماء (2/12)، يسألونك لحسام الدين عفانة (6/298)، فتاوى الأزهر(6/177)، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء(14/299) }.
والله تعالى أعلم
المجلس الإسلامي للإفتاء .